من حين لآخر يصحو الفكر الإسلامي من إغفاءته ليتحدث البعض عن تجديد الفكر الديني, بينما يبدي البعض اشمئزازه من هذه البدعة. وينسي الطرفان أن التجديد في الفكر الديني واجب شرعي, ونحن مأمورون به, وملزمون بأدائه.
ينسي الطرفان حديثا شريفا رواه أبو هريرة يقول: إن الله يبعث علي رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها.
ولقد توقف الإمام جلال الدين السيوطي أمام هذا الحديث مؤكدا فضله علي الإنسان إذ يدعوه إلي تجديد فكره ورؤيته وأسلوب تفكيره, وأصدر حول هذا الحديث وحده كتابا هو التنبئة بمن يبعثه الله علي رأس كل مائة ويقول في شرحه المستفيض لهذا الحديث: إنه علي رأس كل مائة سنة يبعث الله داعية يقوم بالتجديد... ويقول: إن المائة سنة ليست شرطا فلقد يأتي من يجدد بشكل متلاحق, وقد يأتي أكثر من مجدد في زمان واحد.
ويتوالي المجددون يأتون مع مطلع الفجر برغم دعاة الظلام والظلامية, يعملون العقل ويرفضون النقل, ويستدعون الجديد في الفكر والعلم ويتطلعون إلي المستقبل فيصدهم عن طريقهم دعاة التقليد والتمسك بالقديم.
ويدور صراع دائم.. لكنني أخشي أن أقرر أن زماننا غير المضيء يري تسحب الكثيرين من مجال التجديد خشية الاتهام بالابتداع, وينسي الجميع.. الحديث الشريف.
وتعاني عملية التجديد في الفكر الديني من أن البعض لم يزل يطل برأسه ليغمسه ويغمس معه رأيه ورؤيته في بئر أفكار قديمة وردت في كتب تراثية هي بمثابة الشوك في ساحة العقل.. ويتوقف د. محمد حسين هيكل أمام هذه الأفكار البالية التي لم تزل تفرض ظلها البغيض علي العقل الإسلامي أو علي مساحة كبيرة منه ويقول: إن البعض قد أضاف إلي دين الله شيئا كثيرا لا يرضاه الله ورسوله, واعتبره من صلب الدين واتهم من ينكره بالزندقة, فقد أضافت أكثر كتب السيرة ما لا يصدقه العقل ولا حاجة إليه في ثبوت الرسالة, ولأن هذه الأقاويل قد اعتبرها البعض من صلب الدين فقد رمي من أنكرها بالإلحاد, بل إن العديد من العلماء المسلمين وفي مقدمتهم الشيخ محمد عبده قد اتهموه بالإلحاد والكفر( حياة محمد ص29).
بعض الدارسين في المعاهد الدينية يقول: أي شقاء فكري وروحي نجده عندما نري في بعض الكتب التي يتدارسونها أن نوحا عليه السلام بني سفينته من عظام حيوان يبلغ طوله مسافة ما بين السماء والأرض, ويبلغ عرضه مسيرة عام كامل, ويتساءل: أي عقل عاقل يتقبل ذلك؟ ثم يمضي قائلا: إن كتابا آخر يتدارسونه يقول عن الشيخ إن نعليه يطيران ويضربان رأس الفاسق حتي يموت. وإن تابع الشيخ ـ وليس الشيخ نفسه ـ يمشي علي الهواء والشمس تسلم عليه, وإن الشيخ وهو في المهد رضيع كان يمنع نفسه عن ثدي أمه في رمضان من الفجر إلي الغروب لأنه صائم, وإن أهل بغداد رأوه رأي العين يقف علي ماء نهر دجلة والأسماك تأتي فوجا بعد فوج تسلم عليه وتقبل يديه ورجليه( الهلال عدد11 ـ1967 ـ مقال: محنة الفكر التقدمي).
وما من حل سوي إعمال عقل عاقل ومتعقل ينقي تراثنا القديم, ويستبعد منه الشوك المنافي للعقل, ذلك أن مجرد استقرار مفاهيم كهذه لدي إنسان تجعل منه آلة تتلقي ما هو مكتوب وتردده ثم تتمسك به, وربما تقاتل من أجله دون أية محاولة لوزن الكلمات بميزان العقل. ومع اختفاء قدرات العقل تسود الأفكار السوداء, وينعق يوم التطرف, وتظهر علي الفضائيات أحاديث وفتاوي تفرض البكاء علي كل من تهمه مصلحة الدين ويهتم بالوطن وتقدمه والناس وتحقيق آمالهم وطموحاتهم. ولكن, برغم تمسك البعض بالنظر المتخلف, لا يزال فجر العقل يطل من حين لآخر بمفكرين قادرين علي إنصاف العقل في مواجهة النقل الأعمي وعلي التطلع لفهم واع يسير بالفكر الديني في طريق التقدم والحرية والعلم وحرية الإبداع العقلي.
والأسماء كثيرة. رفاعة الطهطاوي ـ الأفغاني ـ محمد عبده, ومن تلاهم من مفكرين مبدعين عقلانيين ومستنيرين. وقد أكد الإمام محمد عبده أنه دون استخدام العقل سوف يتعذر علي المسلمين إحراز أي تقدم أو تطور, ووفق هذا الفهم مضي الأستاذ الإمام وكان مفتيا للديار المصرية في إصدار فتاوي فتحت أمام مصر أبواب اللحاق بروح العصر مثل التعامل مع المصارف وشركات التأمين وتأسيس الشركات المساهمة ومسائل أخري قد تبدو بسيطة لكنها تلح علي المسلم في أبواب حياته مثل: هل التصوير الفوتوغرافي حلال أم حرام؟.. وهل استخدام مستحدثات العصر والعلم حلال أم حرام؟.. وهل ثمة زي محدد يتعين علي المسلم ارتداؤه؟. ومضي الأستاذ الإمام بعقل مستنير وصدر رحب في التعامل مع مقتضيات العصر فاتحا بفتاواه أبواب التقدم أمام وطن بأكمله..
ولم يسلم الأستاذ الإمام من هجوم المعارضين وافتراءات دعاة التخلف, لكنه لم يتراجع, مانحا من أتوا بعده من مفكرين مستنيرين القدوة والمثل.
ويفتح الشيخ أمين الخولي أبواب العقل بأفكار جديدة تتلاءم مع روح العصر, موضحا ما يقصده بتجديد الفكر الديني إذا كان المجدد متطورا مع الحياة, فمعني ذلك أنه يتفهم تغيرها في سيرها إلي غدها, ويعمل علي جعل الدين مسايرا لها في السير, موائما لحاجتها فيه, فالتجديد تطور إلي الامام وليس إعادة قديم كان, وهو بالتحديد الاهتداء إلي جديد لم يكن بعد. ويقول إن العلم هو معيار التقدم وإذا كان العلم يجد في الميادين الطبيعية تطورا فإن الإسلام يدعه يمضي في ذلك إلي أقصي ما يصل إليه من مقررات مادية وعملية وفلسفية. وراحة الإسلام هي في ألا يتورط في التفاصيل ويدع العلم يخبو في طريقه معلنا مقدما أنه مستعد لتقبل كل ما يجيء به العلم( الشيخ أمين الخولي ـ المجددون في الإسلام ـ ص10).
وعلي الدرب نفسه يقول د. محمد الدسوقي إن التجديد لا يتحقق بالخيال والأماني, وإنما يقوم علي الجهد والعلم, ومن يستقرئ تاريخ الاجتهاد في حياة الأمة يلاحظ أن هناك علاقة عضوية بين ازدهار الاجتهاد الفقهي وتقدم الأمة وقوتها.. وما دام الاجتهاد مناط التجديد, والتجديد مناط القوة للأمة فإن التجديد يصبح فريضة( د. محمد
ويفتح د. محمود حمدي زقزوق أبوابا للتفكير العقلي مستدعيا فقها جديدا متجددا يبحث في أمور مثل نقل الأعضاء والاستنساخ وأطفال الأنابيب والكثير من المعاملات المالية الحديثة خاصة بعد استخدام الإنترنت علي نطاق واسع ومدي شرعية وحجية استعمال هذه الوسيلة الحديثة في وقوع الزواج والطلاق والوصية وغير ذلك من معاملات( د. محمود حمدي زقزوق ـ مقاصد الشريعة الإسلامية وضرورات التجديد ـ ص29).
.. ويأتي مجددون وسيأتي آخرون فموج الفكر المستنير لا ينتهي لكنني أكاد أقرر أن موج الجمود والتمسك بالقديم ورفض أي إعمال للعقل والعلم لم يزل عاتيا, ولم يزل قادرا علي مواجهة أي دعوة تجديدية ربما لأن المؤسسة الدينية لم تزل علي ترددها إزاء خوض معركة التجديد.. أعيد العبارة لأؤكدها خوض معركة التجديد, فالتجديد لن يكون ولن يأتي بمجرد الهمس بأفكار مترددة وغير حاسمة. فنظل كما نحن محلك سر يقول البعض منا ولا يفعل, ونترك الفعل والصوت العالي لدعاة التخلف.
هل تريدون مثالا بسيطا وساذجا؟.. مسألة توحيد الأذان وكيف طرحت وكيف هوجمت ثم ترددت وخفت صوت الدعوة إليها رغم أنها مسألة إجرائية وإنسانية.. ولعلي بهذه المناسبة أسأل أصحاب الفضيلة المسئولين عن الإفتاء.. ما قولكم في مربع سكني صغير تنطلق فيه ميكروفونات خمس بالأذان؟ ولأن التوقيت قد يختلف فإن البعض يبدأ وبعدها يلحق به البعض فتتداخل الكلمات أو بالدقة الصيحات التي تعوزها ملاءمة الصوت.. تتداخل الكلمات فلا يفهم المتلقي منها شيئا ولا يتابع منها سوي ضجيج ينافس بعضه بعضا.. أسأل هل هذا أذان صحيح؟ وهل هو مقبول؟
.. وكان هذا مجرد مثال يؤكد لنا أن التجديد لا يكون ولن يكون بغير توحد كل القوي التجديدية المستنيرة.. توحدها علي طريق العقل والعلم والتقدم.. وعبر معركة جادة في مواجهة قوي التخلف والجمود..
فالأمر ليس مجرد رفاهية, أو تمتع باستقراء فكر جديد, وإنما هو فريضة شرعية وهو فوق هذا واجب وطني يستهدف فتح أبواب التقدم والازدهار والأخذ بأسباب العلم أمام الوطن.. ويستهدف النهوض بالشعب ومنحه حياة أفضل وحرية أرحب وقدرة علي إعمال العقل والفكر المتحررين..
وبهذا يلتقي الواجب الديني مع الواجب الوطني والديمقراطي في مسيرة انتظرناها ولم نزل.. وآمل ألا يطول انتظارنا..