قال المستشرق الإسباني «غرناطة لا تزال وفيّة للدماء العربية، التي تجري في عروقها». ولا يملك دارس التاريخ والأدب وعلوم الدين والعمارة إلخ.. في جامعتها، ان يتجاهل الحضور القوي للثقافة والتاريخ العربيين. ولئن كانت هذه الميادين نخبوية إلى حد ما، يقتصر روّادها على المتعلمين والأكاديميين، فالموسيقى أشبه بالعدسة المكبّرة التي يرى من خلالها المثقف والعادي الوثاق الروحي، الذي يشدّ الأندلس إلى الثقافة العربية الإسلامية. والدور الجوهري، الذي يلعبه النغم الأصيل في تسليط الضوء على صلات الدم هذه، يتجلى في نتاج فنانين عرب وإسبان منهم، المغربي كمال النووي والسوري هامس البيطار.
تعاون الفنانان مع موسيقيين إسبان متخصصين بالألوان الأندلسية الأصيلة، على تأسيس فرقة تقدم موسيقى يتعانق فيها مشرق العالم العربي بمغربه ويرصعها اللون الأندلسي الإسباني. وعزفا في عدة حفلات مع موسيقيين من سورية ومصر والمغرب وإيران، قدما فيها الموشحات الأندلسية ذات الطابع المشرقي فضلا عن الكلاسيكيات العربية الشرقية مثل سماعي وبشرف ولونغا. وقد لقيت آخر حفلاتهما في قرطبة ثناء الجمهور الأندلسي أخيرا. فموسيقانا الأصيلة لا تزال تحرك مشاعر المستمع الإسباني، على الرغم من الألحان العربية وشبه العربية الهابطة التي تكاد تصمّ أذنيه وتوهمه أن أنغامنا التقليدية معنية بهزّ البطن أولاً وأخيراً.
حالما تراهما، تدرك على الفور انك أمام كيان موسيقي ملون ومتعدد. وكيف يكون طرفا الثنائي متطابقين، وهامس (32 سنة)، شاب أشقر أبيض البشرة، يحار الأوروبيون عادة بهويته الأصلية، فيظنونه تارة فرنسيا وأخرى ايرلنديا. بينما كمال (35 سنة) مغربي ملامحه توحي بانتمائه العربي والبربري. وكل منهما نقيض للآخر أكاديمياً. هامس جاء من بلدته، مصياف في وسط سورية، لتحضير الدكتوراه في القانون الدولي في جامعة غرناطة. أما كمال فأتى من مسقط رأسه تطوان في شمال المغرب لاستكمال دراسة الطب.
لكن بعيدا عن انطباعات الوهلة الأولى، ثمة وشائج عميقة تربط بين الفنانين الشابين وتترك بصماتها على نتاجهما. فهما ارتشفا الموسيقى مع جرعات الحليب الأولى. تتلمذ هامس على يدي والده الفنان عدنان البيطار، الذي ورث الوله بآلة العود عن أبيه فدرس الموسيقى، ثم انكبّ على تدريسها منذ حوالي 30 سنة. وترعرع كمال في كنف والده علي بن شعيب النووي، استاذ اللغة العربية، الذي أخذ بيد طفله على درب الموسيقى والشعر والإنشاء والغناء وأصول تجويد القرآن الكريم. ومن المكان الأول ولحظة البدايات البكر، أسرع كل منهما الخطى على طريق التحصيل والخبرة الفنية.
في دمشق، بدأت الآفاق تتكشف عن مستقبل موسيقي لاح عن بعد لهامس، الذي جاء إلى العاصمة محملاً بجوائز وأوسمة كان فاز بها مكافآت على أداء فردي في هذا المهرجان، أو وصلة جماعية قدمها مع اخوته في تلك الحفلة. وهناك تلقى دروسه الأولى على الغيتار في أوائل التسعينات، وأخذ يوطد صداقته بهذه الآلة، ويعب من «ريبرتوارها» الكلاسيكي ومن موسيقى الفلامنجو. أما كمال، فجمع بين الموسيقى والفنون التشكيلية. لم يفته أن يكرس بعض الوقت لدراسة الفنون الجميلة والخط أثناء تدربه على الموسيقى وفنون الإيقاع والكورال، ووقف مغنياً وعازفاً على منصة واحدة مع فرق إسبانية ومغربية. وفي غرناطة، كان كمال على موعد مع مزيد من الفرص، إذ يقول: «التحقت بأوركسترا تونا التابعة لكلية الطب، ثم شاركت في عروض مسرحية (...) وسجلت ألبوما مع مطرب الفلامنجو المشهور انريكي مورنيتي، ومع فرقة الآلة، التي تعاونت مع المغني المعروف خوان بينيا لبربخانو، وهو من السباقين إلى التجارب الطربية المشتركة بين الإسبان والمغاربة من موسيقى تطوان».
وشهدت غرناطة أيضا لقاءه الأول مع هامس وبداية مشروعهما في البحث عن الجذور المشتركة بين الموسيقى العربية بنوعيها الشامي والمغاربي من جهة، والموسيقى الأندلسية من جهة أخرى. ومعرفتهما بمداخل الموسيقى ومخارجها معرفة دقيقة، دفعتهما إلى التأني وعدم إطلاق معزوفة أو أغنية ما لم يتأكدا من متانتها الفنية. والحرص على التعاطي مع النغمة العربية واستنطاق مكنوناتها حسب الأصول، لا تلمسها فقط في تعابير وجه هامس حين يرد ذكر هذه الفرقة أو تلك، بل أيضا في استخفافه، ولو باستحياء، من نتاج بعض أقطاب الأغنية الإسبانية ـ العربية مثل فرقة «راديو طريفا». وهذه أدت مقطوعات من قبيل «لما بدا يتثنى» بلغة إسبانية وأسلوب أخاذ، احتفظ بموسيقى الموشح الرحبانية الشهيرة مع تغييرات في التوزيع وتسريع في الإيقاع جعلا اللحن أشبه بدعوة للرقص الأندلسي. غير أن هامس، الذي يعترف بريادة الفرقة وبالجمال الذي يوشي نتاجها، يعتبر ذلك غير كاف بحد ذاته، خصوصا أن الموسيقى هي من يدفع الثمن في رأيه، لأن الفرقة «تجمع موسيقيين مغاربة وإسبانا تدل نوعية نتاجهم إلى أن كل طرف لا يعرف عن موسيقى الطرف الآخر سوى النزر اليسير، ما يجعل كل منهما يبدو أحيانا وكأنه يغني على ليلاه!».
لكن هل يمكن للموسيقى الأندلسية الإسبانية أن تنسجم تماما مع نظيرتها العربية؟ قال هامس: «لا شك أن هذه الموسيقى بأنواعها العربية أو الإسبانية، تمثل في نهاية المطاف رقعة من بساط الموزاييك الثقافي الأندلسي نفسه (...)، ولا ننسى أن أحد أبرز مؤسسي الموسيقى الأندلسية هو زرياب، الذي هجر بغداد (في القرن التاسع الميلادي) هربا من غيرة استاذه اسحق الموصلي، وانتهى به المطاف في بلاط الأمويين في قرطبة، حيث خصّه عبد الرحمن بن الحكم بعناية خاصة». ومعروف أن مواهب زرياب «لم تقف عند حدود الانشاد بصوت شجي والعزف على آلة العود، التي أدخل عليها الوتر الخامس (...)، بل أرسى أسس تعليم الموسيقى وفق طرق منهجية ابتكرها وأنشأ أول مدرسة موسيقية في الأندلس سميت باسمه». هكذا كان زرياب العراب الأول للون الأندلسي، الذي ولد من رحم «موسيقى بلاد الشام وما بين النهرين، التي حمل معه نماذجها إلى قرطبة»، كما يقول كمال. وأدى في رأيه هذا التواصل والتمازج بين أنماط وإيقاعات انتقلت بين دمشق وبغداد وقرطبة إلى ابتكار فن الموشح، ركيزة الموسيقى الأندلسية الذي وضع قواعده الأولى محمد بن محمود القبري أواخر القرن الثالث للهجرة.
وإلى أي حد يصح التعاطي مع الموسيقى الأندلسية المغربية والشامية والإسبانية، وكأنها واحدة لا يختلف بعضها عن بعض؟ قال كمال: «الإسبانية الحالية تغيرت كثيرا، ومحاولات البعض هنا للتعاون مع مغاربة وغيرهم لإنتاج لون هجين لم تكن دائما موفقة (...)، أما المغربية والشامية فهما مختلفتان من نواح عدة، وإن كانا شقيقين توأمين إلى حد ما». ومعروف أن الموسيقى المغربية لا تزال أشد وفاء للمقامات الأندلسية القديمة، فضلا عن تشبعها بإيقاعات بربرية لا وجود لها في المشرق، أما الشامية فتتكئ على ربع الصوت، الذي لم يكن رائجا، أو مستعملا في الأندلس. وفيما تطورت الموسيقى المغاربية عن طريق الاحتكاك بأوروبا والاستفادة من النغم البربري المميز، وجدت نظيرتها الشرقية في الموسيقى التركية والفارسية نبعاً لإلهام جديد وتزاوج تمخضت عنه ألوان جديدة منها القدود الحلبية مثلا.
هكذا وجد الشابان نفسيهما عند مفترقات عدة طرق، كل منهما يحمل معه تركة ثرية من الإيقاعات والألحان، التي تتقارب وتتباعد. فوضع الواحد يده بيد الآخر على أمل أن يوسعا البؤرة الصغيرة، التي تتآخى في فضائها أنواع الموسيقى البعيدة ـ القريبة وصولا إلى أنماط تعددية تقطف الجمال من هنا والعذوبة من هناك. التجربة بدأت تتبلور، وأخذ «عود» الموسيقيين الشابين يقسو تدريجيا، فها هما ينكبان على تسجيل ألبوم جديد يشاركهما فيه عازف قيثارة إيراني لا بد أن ينفح العمل ببعض خصوصيات ثقافته الأم.
وإلى أن يحين موعد اللقاء التالي مع صدور الاسطوانة الجديدة، تركتهما لجلبة العمل والتسجيل، وتركت غرناطة، التي لا تزال تكفكف دموعها لحزنها على أحد أساطين الغناء الأندلسي كارلوس كانو. فقد خذله قلبه أخيرا بعد نحو ثلاثين سنة على المسارح تخصص فيها بنمط «كوبلا» الأندلسي التقليدي. وتميز بحس اجتماعي مرهف دفعه للوقوف إلى جانب المهاجر المعربي وافتتاح بعض حفلاته بعبارة «السلام عليكم»، تعبيرا عن تمسكه بهويته الأندلسية والدماء العربية الإسلامية، التي جرت في شرايينه حتى أسابيع قليلة.
prince of love
منقول