أما ما افتتح به في فقرته الأولى للتعريف بالموسيقى الداخلية على أساس ارتباطها بالواقع النفسي والحالة النفسية التي يصدر عنها الشاعر ومن ثم قدرة النص على التماهي مع هذه الحالة بما يجعله تاليا وحدة نفسية قادرة على الانتقال إلى المتلقي فهو تفسير وموقف آخر لأصحاب النظرية النفسية في اعتبار نشوء هذه الموسيقى الداخلية مرتبطا بها كما سنرى تاليا ، ولعل جملة خلط القضايا هو ما دعانا إلى محاولة تقنينها وفصلها عبر هذه المطالعة .
إن ما يستحق الوقوف عنده في مسألة الصوت تحديدا هو الميكانيزم الذي يشتغل وفقه ويؤدي وظيفته تبعا لذلك ، وهذا الميكانيزم يرتبط ارتباطا وثيقا بعنصر الاستقبال السمعي فالنفسي تاليا لناتج وثمرة هذا الميكانيزم ، إن حركة الألفاظ وإيقاعها ينزل مباشرة في آلية خطية باتجاه الشعور ويتعامل ببساطة مع القلب والوجدان وتشوّقات النفس كما هي الحال في الموسيقى الصادرة عن الآلات الموسيقية الأخرى قبل أن ينفتح تاليا الفكر والتبصّر ومن ثم عمليات الإدراك المعقّدة ذهنيا لمعالجة ما يقوله النص، وهذه هي السمة العامة لاستقبال الموسيقى التركيبية نتيجة للاعتماد الكلي على مرتكز الصوت ومنظومته .
يرد إلى الذهن سؤالان هنا في مسألة الموسيقى الداخلية وأرى ضرورة إثارتهما في هذا الموضع وهما على النحو التالي :
السؤال الأول : هل الموسيقى الداخلية تختص بالشعرية العربية أم هي قانون عام ومستحصل مؤكد في كل الشعريات الأخرى ؟
من الواضح أن هذه الموسيقى لا تختص بالشعرية العربية وحدها وإن كانت كذلك فهي بالتالي مما لا يصلح معه التعميم إلى مستوى العام وستصبح شأنا لغويا أكثر من كونه شأنا شعريا ، وعندها يمكن الحديث عن هذا الموضوع في إطار مختلف تماما ، وإذا كانت النصوص الشعرية الأخرى في الشعريات غير العربية تحمل هذه الموسيقى كما يصرّ على وجودها شعراؤها ونقادها فإن من طبيعة هذه الإجابة أن تجعل من وضعها برسم الصوت في كل التفرعات عليه هم في موقع الشك بما ذهبوا إليه .
ونذكر في هذا الموضع رد كل من أدونيس والخال على ما جاء على لسان نازك الملائكة في اعتبار قصيدة النثر مجرد ركام نثري فارغ لا معنى له حيث أشار هؤلاء إلى أنه " إذا كانت الدعوة إلى قصيدة النثر دعوة ركيكة فارغة المعنى كما تقول نازك ، فكل ما كتبه شعراء كبار كلوتر ، بامون ، رامبو ، فلوديل ، هنري ، أرنو وسات جون بيري وكل ما كتبه هؤلاء من قصائد نثر هو فن ركيك فارغ المعنى "11 ، وهذا يتضمن قطعا ما أرادوا نسبته إلى قصائد هؤلاء في شعرياتهم المختلفة على أنها تتضمن بداهة هذا الاشتراط الموسيقي الداخلي في شعرياتهم لتكوين قصائدهم النثرية ، والمدهش أنهم احتموا بنماذج من شعريات أخرى للرد على نازك وكان أولى لو استشهدوا بنماذج وتطبيقات عربية في مجال الرد على هذا الاتهام لأن كون نماذج قصيدة النثر في شعرياتها الأخرى قد نجحت لم يتضمن أنها ناجحة في التطبيق العربي بل تركوا ذلك كما أسلفنا للسجال النظري ونتائجه .
وهكذا فالصوتيون العرب لن يمكنهم استخدام ذات القواعد بالتمييز بين نوعية الحروف أو علم البلاغة والبديع وتطبيقاتهما على هذه الشعريات فلها خصائصها اللغوية بالتأكيد ، كما لن يكون بالمستطاع أيضا تطبيق ذلك على المترجَم من هذه النصوص ذلك أن الترجمة لن تستطيع نقل تلك العلاقات الفنية والتي هي من اخص خصوصيات كل لغة على حدا إلى ما يقابلها عربيا ، وبالتالي فإن الذهاب إلى ربط الموسيقى الداخلية بالعنصر الصوتي ومتفرّعاته وما يحيل إليه وجملة العلاقات الناشئة عنه لا يمكن بحال تقديمه على أنه أساس هذه الموسيقى وسيقصر جملة ما يراه الصوتيون وما ذهبوا إليه في باب الموسيقى التركيبية حصرا وهو الأكثر منطقية وقبولا تصبح بعدها الموسيقى التركيبية قانونا عاما يتعلق بجملة النظم والتنضيد وما تستفيده من طبيعة كل لغة على حدا.
أما السؤال الثاني الذي يتبادر إلى الذهن في هذا المجال فهو يتعلق بطبيعة قانون التآلف في تحقيق الموسيقى .
والسؤال هو : معلوم أن الموسيقى الخارجية أو التركيبية تختل بتغيير ترتيب مكوناتها ، فهل يحدث ذات الأمر في الموسيقى الداخلية ؟
وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من الوقوف على طبيعة هذه الموسيقى أولا ومم تنشأ بعد أن تم استبعاد الصوت وطاقته وعلائقه ، وكما قدمنا فإن القسم الآخر ممن اجتهد في البحث عن طبيعة الموسيقى الداخلية هم الصورَويون أي الذين أحالوا مبعث هذه الموسيقى إلى الصورة الشعرية وهؤلاء وضعوا هذه الإحالة في مستويين مختلفين .
أما القسم الأول منهم فقد جعل الإحالة عامة بمعنى أن الإحالة هي للصورة الشعرية في علاقاتها مع اللغة والمدلول والجو النفسي العام للنص الأدبي ، ويطرحون موقفهم هذا على أساس أن " الإيقاع الداخلي للنص ويقصد به الحالة الشعورية التي يحملها النص الأدبي " ويردفون " فما يؤكده النقد الحديث أن توتر الحالة الانفعالية وهيجانها كثيرا ما يضغط على النص ، وتضغط على مقاطعه وتتوتر دلالاتها والإحساس بهذا الشعور الداخلي المتوتر هو الشعور بالإحساس الداخلي "12، إذن فجملة الإحالة الواردة هي للتشارك بين النص والذات في الجو النفسي الخاص " وبعبارة أخرى نقتطف مما قدمه الورقي عنها بقوله " اعتمدت قصيدة النثر كما تبدت في أعمال شعرائها على صورة موسيقية نفسية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتجربة الشعرية " .
لسان حال هؤلاء القوم يرى أن الصورة الشعرية المتشكلة في جو نفسي ما سيختلف عن ذات الصورة وذات اللغة المستخدمة في نص واحد بالقطع عن حالة النفس العامة في وضع آخر ، وبالتالي فهم يرون أن الموسيقى الداخلية ووحدة تكوينها ليس الصورة الشعرية بحد ذاتها بقدر ما هو الحالة العامة معها والتي تلعب هي الدور الفيصل فيها ، وهذا ما يمكننا استنتاجه من فهمهم وتقديمهم لمقولتهم على هذا النحو ، وبالتالي تحدث بوضوح عملية انسحاب خارجية عن النص يلعب الدور الرئيس فيها ليس النص بحد ذاته بقدر ما هو الخارج عنه .
أعتقدت بعد مراجعة هذا الفهم أن تفسير ذلك عندهم يعتمد على مكوّن نفسي يحيل إلى خارج النص ذاته ولكنه يلعب دورا هاما في تحقيق ذلك ، ومثل ذلك نرى أنه سيقع نتيجة التضمين وهو أسلوب أدبي معلوم وشائع التطبيق ، فالصورة الناشئة عن أصل النص قبل التضمين ستختلف عن الصورة الناشئة عند التضمين من حيث تشكّلها وتفاعلها وتأثيرها النفسي نتيجة اختلاف طبيعة جو التلقي العام ، وأصدق الأمثلة هي النص المقدس ففي القرآن الكريم وهو النص المعجز بالتأكيد وأعلى درجات النصوص على الإطلاق سيختلف وضع التلقي عند تلاوة النص الكريم في الآية الكريمة " الرحمن على العرش استوى " عن وضعه عند تلقي ذات الصورة الرائعة في نص أدبي آخر بعد عملية تضمينها شعرا أم نثرا .
إن الصورة الشعرية والفنية العالية ستأخذ طبيعتين مختلفتين مع أنها واحدة في كل الأحوال وبذات اللغة وذات المدلولات نتيجة لاختلاف هذا الجو النفسي العام الموجود خارج النص ولكنه لا يمكن بحال من الأحوال فصله عن الخليط العام المتفاعل معا، وما يصدق على القرآن الكريم يصدق أيضا على الحديث الشريف وهو أفصح وأبلغ القول بعد القرآن الكريم في موروثنا الأدبي واللغوي والديني خذ مثلا الحديث " الجنة تحت أقدام الأمهات " وتخيّل إحالاته في الأصل ونص آخر بعد التضمين ! ، نجزم أن ذلك ايضا ينسحب على الشعريات الأخرى في جانب تضمينها لنصوصها المقدسة ضمن الأدب شعرا كان أم نثرا.
أما القسم الثاني من الصورَويين أو من حاول التقديم لوجهة نظرهم فأرى أنهم يذهبون إلى نوع الصورة بمنقطع عن أي علاقة أخرى ويركّزون على أن الصورة بحد ذاتها هي وحدة بناء الموسيقى الداخلية بغض النظر عن اللغة والمدلولات اللغوية والعناصر الداخلة في تركيبها والجو النفسي المحيط وما هو خارج النصّ ، وهؤلاء يذهبون إلى أن وحدة الصورة تدخل في جملة من التعقيدات عندما تدخل في مجال الرمز والتعاطي مع مرجعيات مختلفة.
نقتطف مثلا لشرح وجهة نظرهم هذه التي تبدو أكثر انحيازا للنص ذاته عما هو خارجه سواء في نفس الشاعر أم في نفس المتلقي هذه الفقرة " لقد أصبحت الصورة الشعرية الآن من وجهة نظرهم أيضا ، صورة مركبة بالغة التعقيد كالحياة تماما مبنية على رؤى وفلسفات ومرجعيات ثقافية وأسطورية رمزية متعددة هذا بالإضافة إلى استيراد بعض الخصائص الكتابية الأخرى وتوظيفها في النص الشعري "13 ، ومثل هذا التقديم يحمل مرتكز نوعية البناء فالصورة وحدها هي الوحدة وهي المتحكّمة بغض النظر عن كونها احتاجت في أن تكون إلى ما تقدّم من منابع والأهم أنها ستكون وحدة مركّبة رمزيا ومن مجموع هذه الصور تتألف الإيقاعات الداخلية أو الموسيقى الداخلية كما يرى هؤلاء ولا علاقة لما هو خارج النص في حدوث ذلك .
هنا موقفان مختلفان حدّاً أحدهما يرى الصورة في مركز الجو العام والثاني يراها منفصلة عما حولها ، الأول يراها متفاعلة وجزءا من منظومة والثاني يراها مستقلة فاعلة وليسا منفعلة بشيء ، وسواء أكانت الصورة في موقع المتشارك أم في موقع المنفرد فإن كليهما متفقان على ضرورة تحقيق الصورة لهذه الموسيقى الداخلية لكي تتم ، بيد أنّ الأهم هو ليس تحقيق عنصر الصورة بكل هذه التعقيدات في نظرنا ، بل هو تحقيق عنصر التآلف بين هذه الصور شرطا لتوليد الموسيقى التي تشترط تآلف عناصرها المولدة لها سواء أكانت هذه العناصر المولدة تعمل صوتيا أم لونيا أم بصريا أم حتى تستخدم صورة شعرية ، وهنا فقط يمكن الركون إلى اكتشاف عنصر الكينونة في هذه الموسيقى الداخلية من عدمها ، فهل حققت النصوص الشعرية على تطبيق النسيقة ذلك ؟ هل تمكنّت التطبيقات العربية في قصيدة النثر من الوصول بمنسوج صورها الشعرية المعقّدة إلى وضع التآلف لتوليد الموسيقى الداخلية بغض النظر عن مكوناتها اللغوية والصوتية وجوّها النفسي المحيط ؟
تلزم أولا الإجابة على السؤال السابق في قضية اعتلال الموسيقى الداخلية أو تلاشيها ، فإن ما نتذكّره جيدا ونقرُّ به أن تبديل وتعديل تراتبية مكونات الموسيقى التركيبية أدى إلى اعتلالها والواقع أن تبديل تراكمية مدارات الصورة الشعرية في القصيدة عقب تحقيق شرط التآلف هذا سيقود حتما لتلاشي موسيقى النص الداخلية هنا ويلقي بها ركاما من النثر المعتل والذي يحفل بعدد لا بأس به من الطلاسم الهامشية ، والتي عقب ذلك لن تقود إلا لرفض مطلق من قبل المتلقي والنقد قطعا ، وإذا كانت عملية الإخلال بهذا التآلف ستقود إلى هذا المصير فإن عدم تحقيقها أدعى إلى ذلك وهو في الواقع القانون العام الذي يحكم مئات النصوص النثرية التي كانت مشاريع قصيدة نثر في لغتنا العربية .
وعليه فإنا نخلص إلى أن تحقيق التآلف في الصور الشعرية السليمة هو مبعث الموسيقى الداخلية وليس الصورة بحد ذاتها ، وقطعا ليس فقط في النص الشعري بل وفي أي نص أدبي آخر وبالتالي فإن هذه الموسيقى الداخلية أو التعبيرية التي أراها أجمل اصطلاح -نستعيره من السعيد الورقي كما تقدّم- نوع ونمط من الموسيقى ينشأ منفصلا عن المنظوم وقد يكون فيه فعلا ، إن التآلف الذي تحققه الآيات القرآنية مثلا هو تآلف عميق وبالغ الروعة يجعلك تستشعره في بناء غاية في الهارمونية والانسجام ، وهو ما يعطي إعجازا من نوع خاص لهذا النص دوما ويفرد له مساحة خاصة لا يجاريه فيها ولا حولها أي نص أدبي آخر سواء أكان شعرا أم نثرا .
هذه الفرادة هي التي دعت قريشاً وأساطين القول العربي يقفون أمامه في كل عصر وكل زمان مشدوهين أمام هذا الفن البديع وهو الذي دعا الوليد بن المغيرة للقول " إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر" ، ولكنَّ الإضافة الخاصة بالنص المقدس في القرآن الكريم هي ليست هذه الموسيقى الباطنة الداخلية والتعبيرية أو التصويرية فحسب بل إن هناك إضافة من نوع خاص لا تتأتى إلا لهذا النص القرآني وهي كما يقول مصطفى محمود خاصية الجلال للنص القرآني " ولكن الموسيقى الباطنية ليست هي كل ما انفردت به العبارة القرآنية، وإنما مع الموسيقي صفة أخرى هي الجلال " 14
هذا الجلال هو غلاف وبؤرة ومحيط العملية النفسية والجو النفسي في آن والذي تقدّم الحديث حوله ، فإن أمكن وجود موسيقى داخلية في نص أدبي آخر فإن الجلال منقطع عن أن يكون صفة لأي نص آخر سوى النصّ المقدس ، ونحسب أن هذا الجلال هو أكثر قوة وسطوة في النفس البشرية من أي عناصر فنية أخرى ، وإن كان استشعاره بعمق سيعتمد على حصيلة تفاعل تلعب فيه اللغة الدور الأكبر ، فمن المعلوم أن ترجمة النص القرآني المقدس مثلا هو في الحقيقة ترجمة لمعاني النص ولا يمكن نقل ذات الخصائص عند الترجمة وهو ما ستختلف معه التجربة عند تلاوة النص الأصل أو قراءة النص ذاته مترجما .
وبالعودة إلى موضوعة الموسيقى الداخلية في قصيدة النثر فإن من أراد أن ينتصر لها على نحو ما قدمته بعض المقالات كتلك التي أفادت بأن " قصيدة النثر تعوّض عن الوزن والقافية لا بموسيقى داخلية فحسب ، بل بالغوص حتى نواة الموسيقى وأغوارها حيث براءة اللحن وعفويته "15 هي في الواقع لم تنجز إلا تخريبا لفكرتها ، فنواة الموسيقى وبراءة اللحن وعفويته ليس شيئا آخر تماما وهذه لا تكون سابقة على الموسيقى ذاتها بأي حال ولا منفصلة عنها .
وفي السجال ونظرياته بقيت زاوية لمن أراد الاتكاء على عنصر ذاتي محض وعلى التجربة المنفصلة وهو بالتالي جعل هذه اللبنة الخاصة بعيدا عن الصوت والصورة معا واختار الركون إلى ما هو خارجهما وفوقهما ، ونذكر أن جزءا من الصورويبن قد ربط هذه الصور بالجو النفسي ولكن الذين آثروا على أن يقدموا لنا فهمهم معتمدا على التجربة وحدها بعيدا عن الصورة والصوت رادّينها إلى الخروج على كل الحواجز قد انطلقوا بعيدا جدا كما نرى ، حيث يرى أدونيس أخيرا لتوصيفها على أنها " قفزة خارج الحواجز كلها وتمردا أعلى " 16 ومثل هذا التوصيف يلقي بالصورة الموسيقية رهنا بالعامل الذاتي الخاص الذي يتيح له عن طريق إيقاع حدسي خاص التقاط التجربة الشعرية وإدراكها حسب هواه كما يرى من يرى رأيه .
وفي مجال مقارنة ميكانيزم التعامل مع نوعي الموسيقى في النص الأدبي نرى أنه بينما كانت عملية الاستقبال وميكانيزم التعامل مع الموسيقى التركيبية على اختلاف أنماطها عملية خطية متوقعة نشعر بها شعورا مسبقا على إدراك التجربة نظرا لالتقاطها المباشر من خلال الحواس وانتقالها السريع والطردي في الوجدان وانعكاسها على الانفعالات قبل انفتاحها أمام الذهن ، فإن الحال مع الموسيقى الداخلية يختلف تماما حيث المعادلة ليست خطية مباشرة وإنما هي معادلة معقّدة تحتاج أولا المرور عبر ذهنية صافية ومميزة وخبيرة قبل أن تفيض إشعاعاتها الوجدانية والنفسية مما يجعلها أصعب من أن تنال دون جهد يبذل وامتزاج تام مع النص يحقّق .
وإجمالا فإنا نجد أنفسنا أميل إلى القول بأن الموسيقى الخارجية هي تلك الناشئة عن فعلي النظم والتنضيد معا لا شك في ذلك بينما الموسيقى الداخلية هي تلك الناشئة عن تآلف الصور الشعرية في أي نسق يختاره النص في تجربته المطلقة على أن تكون فاعلة في استجلاب الأثر فإن لم تحقق ذلك فهي غير موجودة في النص مهما قيل عن التنظير لها ، فإن الأثر يدل على المسير كما قال البدوي الأول ولعلي أعود إلى ما اقترحته يوما في شأن تعريف موجز لفن الشعر فأعيد الإشارة له هنا للتذكير به فالشعر (هو كلُّ نص نتج عن نبض شعوري في قالب لغوي موسيقي سليم وحرّك خيالا في المتلقي ) ولأني أجد ضرورة الإشارة إلى سلامة هذا القالب الموسيقي سواء أكان قالبا خارجيا أم داخليا وإلا فإن النتيجة المأمولة لن تتحقق ولن يثير هذا النص في متلقيه إلا الدهشة والفزع .
إن ذلك يفترض حقيقة صعوبة خاصة على المستوى النظري مما لا شك فيه وبالتالي فإن التطبيق العملي لقصيدة النثر في الشعرية العربية سيغدو نوعا من التحدي الكبير لو قبلنا فكرة أن تعوّض الموسيقى الداخلية غياب الموسيقى التركيبية بنوعيها النظم والتنضيد ، ومن أصرّ على أن ذلك غير ممكن في العربية ربما قبلَ حدوث ذلك لدى الشعريات الأخرى على أساس أن العربي موسيقي بالفطرة كما قال الكندي وبالتالي لن يشبعه ذلك النوع المراوغ من الموسيقى الذهنية ولأن خصائص العربية أغنى من أن تلجأ إلى التعويض سيما وأنها تستطيع تحقيق الأثنين معا في قصيدة السطر الشعري مثلا .
والواقع من خلال قصائد النثر العربية المنثورة بالآلاف مؤخرا يؤكد أن هذه النماذج في معظمها لا حقّقت موسيقى داخلية ولا هي وصلت إلى أي لحن بريئا كان أم مختلطا أو حتى استثارت تجربة نوعية لدى المتلقي العربي في معظمها، وأن ما حققته قصيدة النثر في الشعريات الأخرى يبدو مختلفا وليس ذلك عائد إلى نوعية الصنف الذي هو قصيدة النثر أو النسيقة بقدر ما هو عائد إلى تطبيقها العربي من جهة ونوعية الشعراء الذين حاولوها في أدب العربية ومجمل حصادهم في هذا الجانب لا يشير إلى نتيجة مشجعة حتى الآن ، فهل يمكن القول أن النسيقة أو قصيدة النثر العربية فشلت في إثبات ذاتها عربيا ؟
لا نود أن نحكم على قصيدة النثر (النسيقة ) بأنها لا تستحق المحاولة ولا يجب أن تعطى فرصة على الإطلاق ، ولكننا أيضا لا نرى تسامحاً في قبول التجريب على أنه هو النتاج ولا بد لنا أن من نقبله طالما قبلنا إمكانية للنوع من باب حصيلة الممكن حتى الساعة فهذا ليس منطقيا ولا يصبُّ في فائدة الشعر العربي أبدا ، بل لا بد َّ من أن تكون النسائق حقيقة قادرة على أن تنهض من أي كساح وأن تستحق مكانها عن مقدرة وكفاءة في عالم الشعر العربي ، ولعل الفترة الزمنية التي منحت لقصيدة النثر كانت طويلة بما يكفي أن تبلور شخصية مقنعة وهو ما لم تفعله حتى الساعة ، فهل يمكنها أن تجتاز قريبا هذه الصعوبات ؟ سؤال يفرض نفسه .