فدوى طوقان : يمامة الشعر الفلسطيني ...!
نظرة أخرى في المألوف.....
-------
لأمر ما ، لا يذكر لي أحد هؤلاء ،إلا وتذكرت ثالثهما، فدوى طوقان ، وعبدالرحيم محمود ،وإبراهيم طوقان، واستقرَّ لدى ،أن العلاقة في أمر هذا الثالوث ،يجمع صميمه هيكل خارجي، قوامه إضافة إلى كون هؤلاء المبدعين الثلاثة ، قد شكلوا علامة بارزة في الشعر الفلسطيني الحديث، وهو ما سبق وأن وصفته ذات مرة، بمرحلة أدب المقاومة الوسيط، فإن هؤلاء في ذات الوقت أتموا علاقة داخلية خاصة، فيما بينهم جميعا، وبين كل اثنين على حدى في ثنايا هذا الهيكل الخارجي الصلب.
أما ملمح العلاقة الداخلية، فدور الأستاذ الذي احتله، الشاعر إبراهيم طوقان، في مركز هذه العلاقة النابه، وإن كان إبراهيم لأحدهما في منزلة القربى، كما في علاقته بفدوى، كونه الأخ الشقيق المحب، فهو الأخ الذي لم تنجب أم الشاعر عبدالرحيم محمود بالنسبة له، أستاذا له في أول الأمر، فصديقاً حميماً ، فأخاً مخلصاً ،وإذا كانت الفترة التي شهدت هذه العلاقة الحميمة بين هؤلاء الثلاثة، وهي فترة ما قبل النكبة الفلسطينية الكبرى، أي ما يصطلح عليه بنكبة العام 48، فإن آثار هذه العلاقة قد امتدت حتى ما بعد، استشهاد عبدالرحيم محمود ، ووفاة إبراهيم طوقان، وبقاء فدوى بعدهما حية.
بيد أن الأمر لا يقتصر ،على ترتيب النظر في أمر العلاقات، حيث ثمة ترجمة عكستها تجربة كل منهم، في شعره وحياته الخاصة، كانت بوجه عجيب موحية، بنسق من التوالي، ونسق من التماثل في محطات مركزية بعينها، وإن كنا نلمح ،أن المشترك المتيقن ،في أمر تجربة هؤلاء جميعا، هو وطأة فصول القضية الوطنية، والمعاناة اليومية، وأثر ذلك على كلٍ منهم، وهو المشترك اللافت، والمستطاع لمحه بسهولة، فإن مشتركات أخرى تبقى بحاجة، لمطالعة فاحصة، قبل أن يتم الجزم بتواترها في حياة كلٍ منهم، وليس سراً أن يكون المشترك الخافت، هو علاقة القلب وطوية الحب.
فشل إبراهيم طوقان، في أمر علاقة الحب التي ذاعت، وعرفت عنه والتي مثلتها اللبنانية ماريا صفوري، ورفضت عائلة طوقان أمر زواج إبراهيم، فذهب ملتاعاً أسيفاً، بينما لم تسمح عائلة طوقان، لفدوى مبكراً أن تكون – كأمر عائلات فلسطين آنذاك- طرفاً في علاقة قلب، ولو أنها كما روت تالياً من أمر فلتها، دون أن تأخذ فرصة، حتى لفهم ما كان يجري مع صبية، في عمر الياسمين، وأما ما ذاع تالياً من أمر علاقتها، وكما روت آنذاك مع أنور المعداوي والذي نشره رجاء النقاش كتاباً، في شأن مراسلاتهما تالياً، فهو ليس فشل علاقة القلب لفدوى الشاعرة الناضجة، وأكاد أقف على فشل آخر بين عبدالرحيم محمود وفدوى طوقان، وهو بظني الفشل الذي كان مفصلاً حقيقياً متمماً لأمر المشتركات بينهم، وثمة قصائد في أمر لوعة الفشل قالها عبدالرحيم محمود، وبنيت على أمر المجهول، بل لربما ما أثبتت في ديوانه الذي جمع تالياً، ولعل من أشهرها: "يا حياتي" ، و "روحي" ، و"قصيدة كبرياء الحب"، وأعلم أن مثل هذا الزعم يلزمه بحث مستفيض، قبل أن يقف الباحث على الجزم به من عدمه، ولعلي وقفت على أمر رسائل فدوى وأخيها إبراهيم، وهي التي جمع جلها الشاعر المتوكل طه في كتب أصدرها، فما استطعت أن أجد ما يشفي، أما ما تناوله الشاعر أحمد دحبور في أحد مقالاته معقباً، على حديث لفدوى مع مجلة الوسط (عدد 17/9/200) ، ونزعته لتفسير مجموعة اللحن الأخير التي أصدرتها فدوى، على غير ما صرّحت به كونه قصة حب لها، فلعله يلقي بضوء على صعوبة التدقيق في أمر هذه الزاوية، سيما ونحن نحاول عصراً مضى عليه أكثر من نصف قرن.
فدوى طوقان يمامة الشعر الفلسطيني، وأجدني مطلقاً ذلك عليها، متبعاً خطى ما وصفه العلامة الراحل، إحسان عباس في أمر صاحبه أبي حيان التوحيدي، باقتضاب التوصيف في أمر الشعراء، ورغم أن مبعث التوصيف ليس نقدياً بحال، كمظنة التوصيف عند أبي حيان، فإن يمامة الشعر فدوى عانت من ثقل ثلاث مصائب كبرى، حدت ببعضهم أن يصفها، بخنساء فلسطين، ولا أراه موفقاً على أي حال، أما هذه المصائب: ففقدان الوطن، وفقدان الأخ، وفقدان الحبيب، على تواليها.
يمكن أن نقف على أثر الشعور بالظلم، الذي اختزنته فدوى مطولاً، ذلك الظلم الأول في حبسها، تحت سيف العائلة والمعيار الاجتماعي الفولاذي، ووطأة الظلم العام في رؤيتها تفقد وطناً وأحبة، بسبب العدوان الصهيوني والتآمر متعدد الجهات، على وطنها وشعبها مبكراً، وفي سنوات شبابها وتفتحها، ولك بعد أن تتوسّع ، في أمر توالي تراكم هذا الظلم العنيف، في أمر خيبة القلب وما ما ترافقه، في مثل هذه الحالات بالنسبة لشاعرة، مرهفة مثل فدوى.
وإن كان صحيح، أن فدوى نالت قسطاً وافراً من الظلم، والعسف مبكّراً لأنها ابنة عائلة طوقان بخاصة، فهي نالت في مقابل ذلك ما أحسبه، ولذات السبب دعماً وتركيزاً خاصا، على تجربتها الشعرية كشاعرة فلسطينية، وإن لم يستو ما أخذ بما أعطي، فإن الحقيقة أن هذا النوع من الدعم والتقديم قد تم لفدوى طوقان، حتى أنه كاد يحجب تجربة شاعرات فلسطينيات مبدعات أخر، ومجايلات لفدوى لا يقلُّ مستوى شعرهن، ولا تنخفض قيمة تجربتهنَّ بحال عن تجربة فدوى، فلعمري قد حجبت فدوى النظر في أحيان كثيرة، عن مجايلات لها لم يسمع كثير من الشعراء الفلسطينيين، قبل غيرهم من المشتغلين بحقل الشعر العربي بهن، فإن سمعوا بسلمى الجيوسي فلربما لم يسمعوا بغيرها، ولعلي أورد على سبيل المثال لا الحصر أسماء لبعضهنَّ : ليلى علوش، ومي الصائغ، وليلى السائح وسلافة حجاوي وغيرهن.
وعلى كلٍ فإن تجربة فدوى الشعرية، تبقى باباً رحباً واسعاً يمكن أن يتناوله الكثيرون بغير مدخل، وهي من أكثر من نال حظهم من الدراسة الأكاديمية الجادة في هذا المجال، ورغم أن شعرها الجميل السلس قد انتقل بين مرحلتين، ما قبل حياتها في لندن وما بعدها، وما قبل عام 67 وما بعده، كل في مجال تحليله حيث لا يتسع المقام لهذا ، إلا أن مجموع هذا الميراث الشعري، ينبه إلى شاعرة متميزة، قيل عن مباشرية شعرها كثيراً ، ولكنه شعر مميز، وصلت بقمته الشاعرة فدوى طوقان، مرحلة الشاعرية المنهجية بظني وزعمي ،إن جاز لي أن أحكم عليها، هذه المرة بما تناولته في نظرية "الشعرية والشاعرية"، وهي بلا شك يمامة فريدة في الشعر العربي بعامة.
وهذا النص كنت أهديته روح فدوى أدرجه في هذا المقام، وهو من مجموعة "مانفستو لا" الأخيرة :
سلام ٌ على مسرى البتول ْ
" إلى روح الشعر وشدو فلسطينَ ...إلى الراحلَة فدوى طوقان ....."
***
سلامٌ على عيبالَ ما انطفأ السراج ْ
سلام ٌ على عيبالَ ما اشتعلَ الحنين ْ
سلام ٌ على جرزيمَ ما ارتحلَ النّهار ْ
سلام ٌ على جرزيم َ ما اختلجَ الأنين ْ
سلام ٌ على فدوى
سلامٌ لعهدِ الياسمين ْ
سلام ٌ لروح ِالطيّبين ْ
سلام ٌ على حارات ِ نابلسَ البعيدة ْ
سلام ٌ على الباذان ِ مشتعلاً بنار ْ
سلام ٌ على باب ِ الجدار ْ
سلام ٌ على لحن ِ الرَّحيل ْ
سلام ٌ على دمع ِ الشفق ْ
سلام ٌ على دمع الشفق ْ......
***
على باب ِ يافا يا أحباءُ موعدٌ
وعهدٌ بعيدٌ ما ارتحلْ
على بابِِ يافا قبلتان ِمنَ الفراقْ
ونبضٌ لها منَ زيزفونَ وزعفرانْ
وجسرُ عبور ٍ منْ مقل ْ
على باب ِ يافا ما تركناه ُ بيننا
وما قد بنينا من أملْ
على باب ِ يافا ما حصدنا وما احترق ْ.....
***
وعدنا إذا الميعادُ قامَ من السياج ْ
فهل عادَ فينا ما انطلق ْ ؟!
وما قد بذرنا منذ ُ قامَ حصانُنا
وأمسى لنا غصن ٌ يعلِّمنا الهوى
ويستلُّ جرحاً لا يهدِّدُهُ الأرق ْ !
نعم ها هوَ الميعادُ قام ْ
وغنّتْ لنا الكثبانُ قافلة ََالوجع ْ
فماذا وجدنا غيرَ قتل ِ حصاننا
وماذا تلونا غيرَ خاتمة ِ الغرق ْ.......؟!
***
لماذا صلاة ُالخائفينْ ؟!
لماذا غيوم ُ الواقفين ْ ؟!
وقفنا على باب ِ الخيام ْ
نظرنا إلى وجهِ الشراعْ
ولكننا أختاهُ عذَبنا الخطاب ْ
فعدنا إلى خيماتنا نلدُ الشموع ْ
وضاعَ الذي زفّوا إليه ِ كتابنا
بكى عندنا وجه ُ القمرْ
مضى مسرعاً ركبُ الحمام ْ
مضى قبلَ أن يهدي الخشوعْ
فضاعَ الهديلُ واختنقْ .........
***
غزانا السؤالُ واستخفَّ جوابنا
فماذا ترانا سوفَ نحسنُ من عويلْ
وماذا سنخفي من رقاع ْ ؟!
رحلتِ سريعاً قبلَ أن يقفَ الصهيلْ
وقبلَ توابيت ِ النخيل ْ
وقبلَ سقوط ِ المستحيل ْ
تراك ِ خشيت ِ ما سيغدو مناسبا ً
لكلِّ الوجوه ِ من طقوسْ ؟!
وهلْ غيَّرَ البحرُ الحروفْ !
فليسَ الذي أبقيت ِمن صخب ِ الدليلْ
وليسَ الذي أخفيتِ من نزق ِ الفؤوسْ
ولا ما حملت ِ للخزانةِ من ورق ْ........
***
إلى موكبِ الزيتون ِ ضمّي سلامنا
وقولي لهم عادوا فراشاً
ولكنْ إذا مرَّ السراب ْ
وماتَ أبناءُ الخراب ْ
وحنَّت إليهم ْ ساعة ُ الفلق ِ العجيب ْ
وعادَ سفيرُ البحرِ في الباب ِ أعشاشا ً
نما بينهم عصفورُ حنّاءَ منتفضاً
وطارَ بأضلع ٍ لها نفّسُ الترابْ
وشقَّ بروحه ِ إليكم طريقه ُ
وعادَ متيّما ً كما كانَ في العشق ِ انطلق ْ.....
***
خذينا إلى عزف ِ الحقول ْ
خذينا إلى بردِ النزول ْ
خذينا إلى شعر ٍ يردَّدُ لا يهون ْ
خذينا إلى عصر ِ الخيولْ
يتامى تركت ِ فارجعي لقصيدة ٍ
ببابِ المسيح ِ واغفري خطرَ الأفولْ
على وجنتيك ِ يا فداءُ سلامنا
محبة ُ فيضنا
وردُ صيامنا
وسلَّةُ مسك ٍ لا يذوبُ ولا يخون ْ
وطوقٌ من العشق ِ القتيلْ
ونورٌ وأنفاسُ المزونْ
سلام ٌ على رؤياك ِ ما استبقَ الوصول ْ
سلام ٌ على مسرى البتولْ
سلام ٌ مقيم ٌ بينَ أجنحنا افترق ْ......
منقول "للكاتب أيمن اللبدي".